تفتح لنا المستودعات الرقمية للنصوص الاسلامية التراثية (مثل مكتبة الجامع الكبير، المكتبة الشاملة، مكتبة اهل البيت، ملتقى اهل الحديث، مكتبة ودود) افاقا جديدة في دراسة التاريخ الاسلامي المبكر، وقد ساعدتني هذه المكتبات كثيرا في البدء بالبحث في قضايا خافية وغامضة من التاريخ الاسلامي المبكر، لا سيما التاريخ المتعلق بأبرز شخصيتين في الاسلام (ابو بكر الصديق، عمر بن الخطاب)، وانا اقرأ وابحث وجدت حادثة تتعلق بشخصية يسمى “صبيغ بن عسل التميمي)، والذي يعتبر صاحب اولى المحاولات في التاريخ الاسلامي المبكر لتفسير القرآن ولعلم الكلام، ولعل صبيغ يعتبر اول الكلاميين لما اثاره من جدل في نصوص القرآن، لكن عمر بن الخطاب كان صارما في منعه صبيغ من اكمال ابحاثه، وقام بقمعه بشدة فجلده على ايام متتالية، ونفاه الى ابي موسى الاشعري في الكوفة ليقضى مدة نفيه، كما حكم عليه بالعزل عن الناس.
ويبدو من الروايات ان صبيغ كان كثير التجوال في مصر والشام، وانه قد اطلع على علوم الشام ومصر، وكان شديد السؤال والكلام في العقائد وأصول القرآن، وكان يسعى للبحث في المتشابهات والمشكل من القرآن، لانه رأى ان هذه النصوص قد تكون شبيهة بما سبق ذكره في نصوص قديمة، ومحاولات صبيغ في التفسير تفتح الباب للسؤال : هل محاولات التفسير الأولى كانت تخيف او تثير الهلع لدى السلطة الاسلامية الأولى؟ وخاصة سلطة عمر بن الخطاب، الذي كان يعرف أكثر من غيره نصوص الاسلام والتوراة وكان ذا صلة مباشرة مع كعب الأحبار،
لقد حكم عمر على صبيغ بالجلد، وكان يجلده حتى ينهار من الألم، ثم يعود لجلده، ثم اصدر فيه بيانا يعتبره جرثومة لا ينبغي للناس الاختلاط بها، ومن الروايات يظهر لنا ان صبيغ حتى رغم نفيه الى الكوفة ظل محل تساؤل عمر بن الخطاب وكان يتبادل الرسائل كثيرا مع ابي موسى الاشعري يسأله عنه.
ولعل وجود صبيغ في الكوفة كان سببا رئيسا في نشوء الكلام هناك.
وقصة صبيغ ترد في كتب التراث كثيرا، واسرد هنا الروايات التي نقلت حادثة صبيغ كما هي :
1 ـ روى الدارمي في سننه ج 1 ص 54 ( عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت ؟ قال أنا عبدالله صبيغ ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه وقال : أنا عبدالله عمر ، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه ، فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي !
2 ـ … عن نافع مولى عبد الله أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر ، فبعث به عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل ؟ فقال في الرحل ، قال عمر أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة ! فأتاه به فقال عمر تسأل محدثة !! فأرسل عمر الى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له ! ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود له !! قال فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت !! فأذن له الى أرضه وكتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين ! فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبوموسى الى عمر أن قد حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته !! ) .
3 ـ ورواه في كنز العمال ج 2 ص 331 وقال ( الدارمي ، وابن عبد الحكم ، كر) ورواه بروايات أخرى مختلفة ، منها ( عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً يسأل عن تأويل مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فبينما عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء ، حتى إذا فرغ قال يا أميرالمؤمنين ( والذاريات ذرواً فالحاملات وقرا ) فقال عمر أنت هو ، فقام اليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ، ألبسوه ثياباً واحملوه على قتب ، وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيب ، ثم يقول : إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه ـ ابن الأنباري في المصاحف ، ونصر المقدسي في الحجة ، واللالكائي ، كر ) . ورواه عن سليمان بن يسار كرواية الدارمي الأولى ، وقال ( الدارمي ونصر والأصبهاني معاً في الحجة وابن الأنباري واللا لكائي كر ) .
4 ـ عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين ( ما الجوار الكنس ) فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل ، فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروري ؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك ـ الحاكم في الكنى ) .
5 ـ عن أبي عثمان النهدي عن صبيغ أنه سأل عمر بن الخطاب عن المرسلات والذاريات والنازعات ، فقال له عمر: ألق ما على رأسك فإذا له ضفيرتان، فقال له : لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، ثم كتب الى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغاً! قال أبو عثمان: فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا عنه ـ نصر المقدسي في الحجة كر ).
6 ـ عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا تجالسوا صبيغاً ، وأن يحرم عطاءه ورزقه . ابن الأنباري في المصاحف كر ) .
7 ـ عن إسحاق بن بشر القريشي قال أخبرنا ابن إسحاق قال جاء رجل الى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين ما النازعات غرقاً ، فقال عمر من أنت ؟ قال امرؤ من أهل البصرة من بني تميم ثم أحد بني سعد ، قال من قوم جفاة ، أما إنك لتحملن الى عاملك ما يسوءك ، ولهزه حتى فرت قلنسوته ، فإذا هو وافر الشعر ، فقال أما إني لو وجدتك محلوقاً ما سألت عنك ، ثم كتب الى أبي موسى ، أما بعد فإن الأصبغ بن عليم التميمي تكلف ما كفي وضيع ما ولي ، فاذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه . ثم التفت الى القوم فقال : إن الله عزوجل خلقكم وهو أعلم بضعفكم فبعث إليكم رسولاً من أنفسكم وأنزل عليكم كتاباً ، وحد لكم فيه حدودا أمركم أن لا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض أمركم أن تتبعوها ، وحرم حرماً نهاكم أن تنتهكوها . وترك أشياء لم يدعها نسيانا ، فلا تكلفوها وإنما تركها رحمة لكم !
قال فكان الاصبغ بن عليم يقول قدمت البصرة فأقمت بها خمسة وعشرين يوماً ، وما من غائب أحب الي أن ألقاه من الموت ، ثم إن الله ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فأتيت أبا موسى وهو على المنبر ، فسلمت عليه فأعرض عني فقلت أيها المعرض إنه قد قبل التوبة من هو خير منك ومن عمر ، إني أتوب الى الله عزوجل مما أسخط أمير المؤمنين وعامة المسلمين ، فكتب بذلك الى عمر ، فقال صدق ، إقبلوا من أخيكم !!
8 ـ وروى في كنز العمال ج 2 ص 510 ( عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمربن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين : أخبرني عن الذاريات ذرواً ، فقال : هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الحاملات وقراً ، قال : هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسراً قال : هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال فأخبرني عن المقسمات أمراً ، قال : هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ، وحمله على قتب ، وكتب الى أبي موسى الأشعري : إمنع الناس من مجالسته ، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً، فكتب في ذلك الى عمر ، فكتب عمر ما إخاله إلا قد صدق فخلَّ بينه وبين مجالسة الناس ـ البزار قط في الافراد وابن مردويه ـ كر ) .
9 ـ وفي كنز العمال ج 11 ص 296 ( مسند عمر ، عن صبيغ بن عسل قال : جئت عمر بن الخطاب زمان الهدنة وعليَّ غديرتان وقلنسوة فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج من المشرق حلقوا الرؤوس يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، طوبى لمن قتلوه وطوبى لمن قتلهم ! ثم أمر عمر أن لا أدواى ولا أجالس ـ كر ) .
10 ـ وفي الدر المنثور ج 2 ص 7 ( وأخرج الدارمى في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل … ـ وأخرج الدارمي عن نافع أن صبيغا العراقي … الخ .
11 ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس أن عمر بن الخطاب جلد صبيغاً الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره .
12 ـ وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ونصر المقدسي في الحجة وابن عساكر ، عن السائب بن يزدان أن رجلاً قال قال لعمر إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ! فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل يوماً على عمر فسأله ، فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال ألبسوه تباناً واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيب فليقل إن صبيغاً طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم .
13 ـ وأخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن عمر كتب الى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغاً ، قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا .
14 ـ وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغاً ، وأن يحرمه عطاءه ورزقه .
15 ـ وأخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال : رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجئ الى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه ، فتناديهم الحلقة الأخرى عزمة أميرالمؤمنين عمر ، فيقومون ويدعونه .
16 ـ وأخرج نصر في الحجة عن أبي إسحق أن عمر كتب الى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما خفي وضيع ماولي ، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه .
17 ـ وأخرج الهروي في ذم الكلام عن الأم للشافعي رضي الله عنه قال : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكتَّاب !!
18 ـ وفي الدر المنثور ج 3 ص 161 ( وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال الفرس من النفل والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضاً ، قال الرجل الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر ، وفي لفظ فقال : ما أحوجك الى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه ! ) .
19 ـ وفي الدر المنثور ج 6 ص 111 ( وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أخبرني عن الذاريات ذرواً … الخ .
20 ـ وأخرج الفريابي عن الحسن قال سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات ذرواً وعن المرسلات عرفاً وعن النازعات غرقاً ؟ فقال عمر رضي الله عنها : كشف رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال : والله لو وجدتك محلوقاً لضربت عنقك ! ثم كتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه ! ) .
21 ـ وفي إكمال الكمال ج 5 ص 221 ( وأما صبيغ بالصاد المهملة وغين معجمة فهو صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عمر عن غريب القرآن .
22 ـ وفي إكمال الكمال ج 6 ص 206 ( وعسل بن عبدالله بن عسل التميمي ، حدث عن عمه صبيغ بن عسال قال : جئت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ وهو الذي كان يتتبع مشكل القرآن فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يجالس ، وقال يحيى بن معين : هو صبيغ ابن شريك من بني عمرو بن يربوع ، روى خالد بن نزار عن عمر بن قيس عن عسل . وقال في هامشه : في الأصل ( كتب ، وفي الإصابة ) روى الخطيب من طريق عسل بن عبد الله بن عسيل ( كذا ) التميمي عن عطاء بن أبي رباح عن عمه صبيغ بن عسل قال جئت عمر فذكر قصة ثم قال : الضمير في قوله عن عمه يعود على عسل . وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ـ ذكره ابن الكلبي في جمهرة بنى تميم . وأما عسل بفتح العين والسين فهو عسل بن ذكوان ، أخباري ) انتهى . والأخباري في ذلك الوقت هو المؤرخ في عصرنا .
23 ـ وفي معجم البلدان ج 4 ص 124 ( عسل : بكسر أوله ، وسكون ثانيه ، وآخره لام ، يقال : رجل عسل مال كقولك ذو مال ، وهذا عسل هذا وعسنه أي مثله ، وقصر عسل : بالبصرة بقرب خطة بني ضبة ، وعسل : هو رجل من بني تميم من ولده صبيغ بن عسل الذي كان يتتبع مشكلات القرآن فضربه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وأمر أن لا يجالس ) .