نظرية القصور الذاتي والتفكك التسلسلي لمفهوم المجتمع والدولة
من المعلوم أن ركيزة ميكانيكية نيوتن تمثلت بمفهوم القصور الذاتي، ومفاده أن أي جسم يظل ساكناً أو يتابع حركة مطردة مستقيمة ما لم تؤثر فيه قوى خارجية تحيد به عن ذلك.
والقصور الذاتي هو الذي يخلق فينا الإحساس الذي نستشعره حينما تقف السيارة فجأة أو تغير اتجاهها فجأةً , فجسمنا يميل بطبعه إلى الإحتفاظ بحركته المطردة المستقيمة , لكن إذا طرأ عليه ما من شأنه أن يعكر صفو هذه الحركة فسرعان ما يهب لمقاومته كردة فعل لمنعكس عصبي فنحس بذلك الشعور أو الإحساس.
وكذلك يجري الحال مع حركة المجتمعات وتحديد طبيعتها واتجاهاتها.
إن مدَّ التحطيم الذاتي للمجتمعات المحتمل في كل آن، ما عاد يمكن إيقافه بعلاج آتٍ من أصولٍ تكنوقراطية للشر؛ متلبسة بثياب الديمقراطية أو الحكومات المدنية، فأزمةُ الوعي بما يحدث في قاع المجتمعات تدفع إلى تحوّل عميقٍ في علاقة الفرد بالفرد؛ والفرد بالمجتمع بعامة، حتى أني أوشك أن أقول: ما عاد هناك مجتمعات بالمعنى التقليدي للمجتمع. لان إرادة المجتمعات أصبحت شبه معطلة عمليا، أو على الأقل ما عادت حرة ولا عادت تتحكم بها الشعوب.
لم يبق متسعَ وقتٍ ولا فرصة للثورات التقليدية، لأن أدوات الثورة أصبحت بيد لاعبينَ عتاة؛ يقفون وراء الكواليس؛ وهم كيانات منظمة تمتلك كل ادوات تحويل الرأي وصناعته وتقديس المدنس وتندنيس المقدس؛ وبامكانهم تلطيخ أيِّ ثورة بكل منحطٍ من الإجراءات والممارسات والإشاعات؛ فضلا عن كون تغيير الأحوال لا تحفز الكوامن النفسية للسلوك العام؛ فما عاد العالم بحاجة إلى مغامرين جُدد؛ يأكلون جهد الثورات وهي في بوادر نشوئها.
إن القيمة في الانتماء اختلفت، فما عادت تتمثل بالوطن ولا بالدين ولا بالقوميات بل بالمصلحة وما يمثله نظام ما من مصلحة للأفراد؛ على وفق نظرية بنثام للقانون، وحين ينفرط عقد هذا التمثل يتحول الشعب الى فئات تدافع عن مصالحها في وقت لا مصالح عليا لها إلا مصالحها الذاتية.
على الناس إعادة النظر في كلمة ثورة، ولستُ أدعو إلى التفكير بفحوى كلمة ” ثورة ” بقدر ما أدعو الى التفكير مليا بكلمة مشكلة.
لم تعد القضية ثورة تتأتى من حزب أو مِن طبقة معينة أو طائفية تفرض حمولاتها المرضية والتاريخية لتسقطها على أرض الواقع حلولا عقيمة.
لم تعد كلمةُ ثورة غزو السلطةِ أو مسك زمام القوة؛ ولا امتلاك وسائل الإنتاج؛ ولا الإجهاز على الطغاة؛ لأن كل ذلك سيؤول – كرة أخرى – إلى إنتاج طبقة جديدة مهيمنة هي امتدادٌ لمن جعلوا مِن أنفسهم نبلاء عبر العصور.
بل أصبح الأمرُ الضروريُّ إشعارَ الناسِ بخطورة اللحظةِ الاحتضارية التي تعانيها المجتمعات التقليدية وهي قيد الذبول.
أما الحصانة التقليدية لوقاية المجتمعات مِن مثل هكذا أحوال وانهيارات؛ سواء بالثورات او بالانظمة البرلمانية – على اشكالها – فما عادت تنفع إطلاقا، لأن سبيلها ذاهب صوب الانتحار والفوضى والتحزب والانتماء إلى ما يكفل المصلحة داخل إطار الفئة.
وان المجتمعات كأصوات انتخابية أو أعداد ثورية فقد أتى عليها الزمن، لان اي تغيير تقليدي تقوم به ستعمل هي ذاتها لاحقا – وعبر الفوضى التي تجر اليها – على تحطيمه تحطيما ذاتيا.
فلابد والحال هذا من تفكير نوعي آخر أكثر خيالا وأكثر خصوبة واشد إيغالا في الامتداد في الجذور الصانعة لحركة المجتمعات؛ يأخذ بالحسبان كل هذه التغيرات.